فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والثاني: حمل الأوزار العظيمة.
أما النوع الأول: وهو حصول الخسران فتقريره أنه تعالى بعث جوهر النفس الناطقة القدسية الجسماني وأعطاه هذه الآلات الجسمانية والأدوات الجسدانية وأعطاه العقل والتفكر أجلى أن يتوصل باستعمال هذه الآلات والأدوات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي يعظم منافعها بعد الموت فإذا استعمل الإنسان هذه الآلات والأدوات والقوة العقلية والقوة الفكرية في تحصيل هذه اللذات الدائرة والسعادات المنقطعة ثم انتهى الإنسان إلى آخر عمره فقد خسر خسرانًا مبينًا لأن رأس المال قد فنى والربح الذي ظن أنه هو المطلوب فنى أيضًا وانقطع فلم يبق في يده لا من رأس المال أثر ولا من الربح شيء.
فكان هذا هو الخسران المبين.
وهذا الخسران إنما يحصل لمن كان منكرًا للبعث والقيامة وكان يعتقد أن منتهى السعادات ونهاية الكمالات هو هذه السعادات العاجلة الفانية.
أما من كان مؤمنًا بالبعث والقيامة فإنه لا يغتر بهذه السعادات الجسمانية ولا يكتفي بهذه الخيرات العاجلة بل يسعى في إعداد الزاد ليوم المعاد فلم يحصل له الخسران فثبت بما ذكرنا أن الذين كذبوا بلقاء الله وأنكروا البعث والقيامة قد خسروا خسرانًا مبينًا وأنهم عند الوصول إلى موقف القيامة يتحسرون على تفريطهم في تحصيل الزاد ليوم المعاد.
والنوع الثاني من وجوه: خسرانهم أنهم يحملون أوزارهم على ظهورهم.
وتقرير الكلام فيه أن كمال السعادة في الاقبال على الله تعالى والاشتغال بعبوديته والاجتهاد في حبه وخدمته وأيضًا في الانقطاع عن الدنيا وترك محبتها وفي قطع العلاقة بين القلب وبينها، فمن كان منكرًا للبعث والقيامة، فإنه لا يسعى في إعداد الزاد لموقف القيامة، ولا يسعى في قطع العلاقة بين القلب وبين الدنيا، فإذا مات بقي كالغريب في عالم الروحانيات، وكالمنقطع عن أحبابه وأقاربه الذين كانوا في عالم الجسمانيات فيحصل له الحسرات العظيمة بسبب فقدان الزاد وعدم الاهتداء إلى المخالطة بأهل ذلك العالم ويحصل له الآلام العظيمة بسبب الانقطاع عن لذات هذا العالم والامتناع عن الاستسعاد بخيرات هذا العالم.
فالأول: هو المراد من قوله: {قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} والثاني: هو المراد من قوله: {وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} فهذا تقرير المقصود من هذه الآية. اهـ.
قال الفخر:
المراد من الخسران فوت الثواب العظيم وحصول العقاب العظيم {الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاء الله} المراد منه الذين أنكروا البعث والقيامة، وقد بالغنا في شرح هذه الكلمة عند قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} [البقرة: 46] وإنما حسنت هذه الكناية أن موقف القيامة موقف لا حكم فيه لأحد إلا لله تعالى، ولا قدرة لأحد على النفع والضر والرفع والخفض إلا لله.
وقوله: {حتى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} اعلم أن كلمة {حتى} غاية لقوله: {كَذَّبُواْ} لا لقوله: {قَدْ خَسِرَ} لأن خسرانهم لا غاية له ومعنى (حتى) هاهنا أن منتهى تكذيبهم الحسرة يوم القيامة، والمعنى أنهم كذبوا إلى أن ظهرت الساعة بغتة.
فإن قيل: إنما يتحسرون عند موتهم.
قلنا: لما كان الموت وقوعًا في أحوال الآخرة ومقدماتها جعل من جنس الساعة وسمي باسمها ولذلك قال عليه السلام: «من مات فقد قامت قيامته» والمراد بالساعة القيامة، وفي تسمية يوم القيامة بهذا الاسم وجوه: الأول: أن يوم القيامة يسمى الساعة لسرعة الحساب فيه كأنه قيل: ما هي إلا ساعة الحساب.
الثاني: الساعة هي الوقت الذي تقوم القيامة سميت ساعة لأنها تفجأ الناس في ساعة لا يعلمها أحد إلا الله تعالى.
ألا ترى أنه تعالى قال: {بَغْتَةً} والبغت والبغتة هو الفجأة والمعنى: أن الساعة لا تجيء إلا دفعة لأنه لا يعلم أحد متى يكون مجيئها، وفي أي وقت يكون حدوثها وقوله: {بَغْتَةً} انتصابه على الحال بمعنى: باغتة أو على المصدر كأنه قيل: بغتتهم الساعة بغتة.
ثم قال تعالى: {قَالُواْ يا حَسْرَتَنَا} قال الزجاج: معنى دعاء الحسرة تنبيه للناس على ما سيحصل لهم من الحسرة والعرب تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور بهذه اللفظة كقوله تعالى: {يا حسرة عَلَى العباد} [يس: 30] و{يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ في جَنبِ الله} [الزمر: 56] {يا ويلتى ءأَلِدُ} [هود: 72] وهذا أبلغ من أن يقال: الحسرة علينا في تفريطنا ومثله {يا أسفي على يُوسُفَ} [يوسف: 84] تأويله يا أيها الناس تنبهوا على ما وقع بي من الأسف فوقع النداء على غير المنادى في الحقيقة.
وقال سيبويه: إنك إذا قلت يا عجباه فكأنك قلت يا عجب احضر وتعال فإن هذا زمانك.
إذا عرفت هذا فنقول: حصل للنداء هاهنا تأويلان: أحدهما: أن النداء للحسرة، والمراد منه تنبيه المخاطبين وهو قول الزجاج.
والثاني: أن المنادى هو نفس الحسرة على معنى: أن هذا وقتك فاحضري وهو قول سيبويه وقوله: {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} فيه بحثان.
البحث الأول: قال أبو عبيدة يقال: فرطت في الشيء أي ضيعته فقوله: {فَرَّطْنَا} أي تركنا وضيعنا وقال الزجاج: فرطنا أي قدمنا العجز جعله من قولهم فرط فلان إذا سبق وتقدم، وفرط الشيء إذا قدمه.
قال الواحدي: فالتفريط عنده تقديم التقصير.
والبحث الثاني: أن الضمير في قوله: {فِيهَا} إلى ماذا يعود فيه وجوه: الأول: قال ابن عباس في الدنيا والسؤال عليه أنه لم يجر للدنيا ذكر فكيف يمكن عود هذا الضمير إليها.
وجوابه: أن العقل دل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا، فحسن عود الضمير إليها لهذا المعنى.
الثاني: قال الحسن المراد يا حسرتنا على ما فرطنا في الساعة، والمعنى: على ما فرطنا في إعداد الزاد للساعة وتحصيل الأهبة لها.
والثالث: أن تعود الكناية إلى معنى ما في قوله: {مَّا فَرَّطْنَا} أي حسرتنا على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها.
والرابع: قال محمد بن جرير الطبري: الكناية تعود إلى الصفقة لأنه تعالى لما ذكر الخسران دل ذلك على حصول الصفقة والمبايعة. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الله} قيل: بالبعث بعد الموت وبالجزاء؛ دليله قوله عليه السَّلام: «مَن حَلَف على يمين كاذبة ليقتَطعَ بها مال امرئ مسلم لقي اللَّهَ وهو عليه غضبان» أي لقي جزاءه؛ لأن من غضب عليه لا يرى الله عند مثبتي الرؤية، ذهب إلى هذا القَفَّال وغيره؛ قال القُشَيْريّ: وهذا ليس بشيء؛ لأن حمل اللقاء في موضع على الجزاء لدليلٍ قائم لا يوجب هذا التأويل في كل موضع، فليحمل اللقاء على ظاهره في هذه الآية؛ والكفار كانوا ينكرون الصانع، ومنكر الرؤية منكر للوجود!.
قوله تعالى: {حتى إِذَا جَاءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً} سميت القيامة بالساعة لسرعة الحساب فيها.
ومعنى {بغتة} فجأة؛ يقال: بَغَتهم الأمرُ يَبْغَتُهُمْ بَغْتًا وبَغْتَةً.
وهي نصب على الحال، وهي عند سيبويه مصدر في موضع الحال، كما تقول: قتلته صَبْرًا.
وأنشد:
فَلأَيًا بِلأْيً ما حَمَلْنَا وَليدَنا ** على ظَهْرِ مَحْبوكٍ ظِمَاءٍ مَفَاصِلهُ

ولا يجيز سيبويه أن يقاس عليه؛ لا يقال: جاء فلان سُرْعةً.
قوله تعالى: {قَالُواْ ياحسرتنا} وقع النداء على الحسرة وليست بمنادى في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التّحسر، ومثله يا للعجب ويا للرخاء وليسا بمنادين في الحقيقة، ولكنه يدل على كثرة التعجب والرخاء؛ قال سيبويه: كأنه قال يا عجبُ تَعالَ فهذا زمن إتيانك؛ وكذلك قولك يا حسرتي أي يا حسرتا تعالي فهذا وقتك؛ وكذلك ما لا يصح نداؤه يجري هذا المجرى، فهذا أبلغ من قولك تعجبت.
ومنه قول الشاعر:
فيا عجبًا من رَحْلِها المتحمَّلِ

وقيل: هو تنبيه للناس على عظيم ما يحلّ بهم من الحسرة؛ أي يا أيها الناس تنَبَّهوا على عظيم ما بي من الحسرة.
فوقع النداء على غير المنادى حقيقة؛ كقولك: لا أَرينّك هاهنا.
فيقع النهي على غير المنهي في الحقيقة.
قوله تعالى: {على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي في الساعة، أي في التقدمة لها؛ عن الحسن.
و{فَرَّطْنَا} معناه ضيعنا وأصله التقدّم يقال: فَرَط فلان أي تقدّم وسبق إلى الماء، ومنه: «أنا فَرَطكم على الحوض».
ومنه الفَارِط أي المتقدّم للماء، ومنه في الدعاء للصبي اللهم اجعله فَرَطا لأبويه؛ فقولهم: {فَرَّطْنَا} أي قدمناه العجز.
وقيل: {فَرَّطْنَا} أي جعلناه غيرنا الفارِط السابق لنا إلى طاعة الله وتَخَلَّفنا.
{فيها} أي في الدنيا بترك العمل للساعة.
وقال الطَّبري: (الهاء) راجعة إلى الصَّفْقة، وذلك أنهم لما تَبيّن لهم خسران صَفْقتهم ببيعهم الإيمان بالكفر، والآخرة بالدنيا.
{قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أي في الصَّفْقة، وترك ذكرها لدلالة الكلام عليها؛ لأن الخسران لا يكون إلا في صفْقة بيع؛ دليله قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16].
وقال السُّدي: على ما ضيَّعنا أي من عمل الجنة.
وفي الخبر عن أبي سعيد الخُدْري عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية قال: «يرى أهل النار منازلهم في الجنة فيقولون: {يَا حَسْرَتَنَا}». اهـ.

.قال أبو حيان:

{قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله حتى إذا جاءتهم الساعة بغتة قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها}.
هذا استئناف إخبار من الله تعالى عن أحوال منكري لبعث وخسرانهم أنهم استعاضوا الكفر عن الإيمان فصار ذلك شبيهًا بحالة البائع الذي أخذ وأعطى وكان ما أخذ من الكفر سببًا لهلاكه وما أعطاه من الإيمان سببًا لنجاته، فأشبه الخاسر في صفقته العادم الربح ورأس ماله، ومعنى {بلقاء الله} بلوغ الآخرة وما يكون فيها من الجزاء ورجوعهم إلى أحكام الله فيها و{حتى} غاية لتكذيبهم لا لخسرانهم، لأن الخسران لا غاية له والتكذيب مغيا بالحسرة لأنه لا يزال بهم التكذيب إلى قولهم: {يا حسرتنا} وقت مجيء الساعة، وتقدم الكلام على {حتى إذا} في قوله: {حتى إذا جاؤوك يجادلونك} ومعنى {بلقاء الله} بلقاء جزائه والإضافة تفخيم وتعظيم لشأن الجزاء وهو نظير «لقي الله وهو عليه غضبان»، أي لقي جزاءه ومن أثبت أن الله تعالى في جهة استدل بهذا، وقال: اللقاء حقيقة و{الساعة} يوم القيامة سمّى ساعة لسرعة انقضاء الحساب فيها للجزاء لقوله: {أسرع الحاسبين} قال ابن عطية: وأدخل عليها تعريف العهد دون تقدم ذكرك لشهرتها واستقرارها في النفوس وذياع ذكرها، وأيضًا فقد تضمنها قوله: {بلقاء الله} انتهى.
ثم غلب استعمال {الساعة} على يوم القيامة فصارت الألف واللام فيها للغلبة كهي في البيت للكعبة والنجم للثريا.
وقال الزمخشري فإن قلت: إنما يتحسرون عند موتهم قلت: لما كان الموت وقوعًا في أحوال الآخرة ومقدماتها، جعل من جنس الساعة وسمّي باسمها ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات فقد قامت قيامته».
وجعل في مجيء الساعة بعد الموت لسرعته فالواقع بغير فتره؛ انتهى.
وإطلاق {الساعة} على وقت الموت مجاز، ويمكن حمل الساعة على الحقيقة وهو يوم القيامة ولا يلزم من تحسرهم وقت الموت أنهم لا يتحسرون يوم القيامة، بل الظاهر ذلك لقوله: {وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم} إذ هذا حال من قولهم: {قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها} وهي حال مقارنة، وإذا حملنا الساعة على وقت الموت كانت حالًا مقدرة ومجيء القدرة بالنسبة إلى المقارنة قليل، فيكون التكذيب متصلًا بهم مغيًا بالحسرة إلى يوم القيامة إذ مكثهم في البرزخ على اعتقاد أمثلهم طريقة يوم واحد، كما قال تعالى: {إن لبثتم إلا يومًا} فلما جاءتهم الساعة زال التكذيب وشاهدوا ما أخبرتهم به الرسل عيانًا فقالوا: {يا حسرتنا}.
وجوزوا في انتصاب {بغتة} أن يكون مصدرًا في موضع الحال من {الساعة} أي باغتة أو من مفعول جاءتهم أي مبغوتين أو مصدرًا لجاء من غير لفظه كأنه قيل حتى إذا بغتتهم الساعة بغتة، أو مصدر الفعل محذوف أي تبغتهم بغتة ونادوا الحسرة وإن كانت لا تجيب على طريق التعظيم.
قال سيبويه: وكان الذي ينادي الحسرة أو العجب أو السرور أو الويل يقول: اقربي أو احضري فهذا أوانك وزمنك وفي ذلك تعظيم للأمر على نفس المتكلم وعلى سامعه إن كان ثم سامع وهذا التعظيم على النفس والسامع هو المقصود أيضًا في نداء الجمادات كقولك يا دار يا ربع وفي نداء ما لا يعقل كقولهم: يا جمل، و{فرطنا} قصرنا والتفريط التقصير مع القدرة على تركه، والضمير في {فيها} عائد على {الساعة} أي في التقدمة لها قاله الحسن، أو الصفقة التي تضمنها ذكر الخسارة قاله الطبري.
وقال الزمخشري: الضمير للحياة الدنيا جيء بضميرها وإن لم يجر لها ذكر لكونها معلومة، أو الساعة على معنى قصرنا في شأنها وفي الإيمان بها كما تقول: فرطت في فلان ومنه: {فرطت في جنب الله} انتهى.
وكونه عائدًا على الدنيا وهو قول ابن عباس، ودل العقل على أن موضع التقصير ليس إلا الدنيا فحسن عوده عليها لهذا المعنى وأورد ابن عطية هذا القول احتمالًا فقال: يحتمل أن يعود الضمير على الدنيا، إذ المعنى يقتضيها وتجيء الظرفية أمكن بمنزلة زيد في الدار؛ انتهى، وعوده على {الساعة} قول الحسن والمعنى في إعداد الزاد والأهبة لها.
وقيل: يعود الضمير على {ما} وهي موصول وعاد على لمعنى أي {يا حسرتنا} على الأعمال والطاعات التي فرطنا فيها، وما في الأوجه التي سبقت مصدرية التقدير على تفريطنا في الدنيا أو في الساعة أو في الصفقة على التقدير الذي تقدم، والظاهر عوده على الساعة وأبعد من ذهب إلى أنه عائد إلى منازلهم في الجنة إذا رأوا منازلهم فيها لو كانوا آمنوا. اهـ.